مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
بحوث و دراسات

الدكتور إسماعيل الفاروقي مسار وأفكار أ د مولود عويمر

هذه هي أول مرة أكتب فيها عن شخصية تاريخية، وأنا أشعر أنني أكتب عن شخص ماثل أمامي، يحدثني وهو حزين قائلا: انظر إلى قنوات التلفزيون العالمية تنقل الآن صورا مؤلمة عن معاناة شعبي، صراخ أمهاتنا ونسائنا الهاربات من المغتصبين، ودماء أبنائي وبناتي تسيل كالوديان، وأشلاء أحفادي تتطاير في السماء من جراء قصف طيران العدو. أبلغ عني أحرار العالم أن معركة شعبي هي معركة وجود، وليست معركة حدود، وليتأكدوا أننا نحن الفلسطينيين لن نُهزم مهما كانت قوة عدونا مادامت ذاكرتنا حاضرة والتاريخ شاهدًا علينا. فاكتبوا عنا يا أصحاب الأقلام الطاهرة واذكرونا عند غيرنا حتى لا تمحى آثارنا كما يحلم بذلك عدونا، وكونوا معنا ولا تكونوا علينا.

مسار وبصمات

هذه الشخصية العربية المؤثرة في الحياة العامة والعلمية في الولايات المتحدة الأمريكية هو المفكر الفلسطيني الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي الذي اغتيل وزوجته في منزله بتمبل في يوم 18 رمضان 1407 هـ / 27 ماي 1986 م).

ولد الفاروقي في مدينة يافا في فلسطين في يوم 1 يناير 1921، وبدأ دراسته على يد والده الذي كان قاضيا شرعيا. وتابع تعليمه الابتدائي والثانوي في المدرسة الدومينيكية الفرنسية، ثم حصل على شهادة بكالوريوس في الفلسفة من الجامعة الأميركية في بيروت في سنة 1941.

انخرط لفترة قصيرة في العمل السياسي والإداري، فعمل محافظا لمنطقة الجليل، ولما قام الكيان الصهيوني انضم إلى حركة المقاومة، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية لمتابعة دراسته العليا بجامعة أنديانا حيث حصل على شهادة الماجستير في فلسفة الأديان في عام 1949. وصادفته مشكلات مادية فانقطع عن الدراسة واشتغل بأعمال حرة عديدة لجمع بعض المال. إلا أنه لم ينقص من حماسه في التحصيل المعرفي، وبقي على عزمه على الدراسة والبحث العلمي، فالتحق بجامعة هارفارد فنال منها شهادة الماجستير في عام 1951. وفي عام 1952 حصل على الدكتوراه من جامعة أنديانا، بعد مناقشة أطروحة عنوانها: “نظرية الخير: الجوانب الميتافيزيقية والإبستمولوجية للقيم”.

وفي عام 1954 سافر إلى مصر للدراسة في جامع الأزهر لمدة أربع سنوات لتعميق ثقافته الإسلامية. ولم يكتف خلال هذه الفترة بالتحصيل العلمي، فقد احتك بالحياة السياسية والثقافية التي كانت تعج بها القاهرة آنذاك، وربط علاقات مع النخبة المصرية، ومنهم الشيخ محمد الغزالي الذي بقي وفيا لصداقته ومعجبا بشخصيته، وقد قال فيه: ” عرفت الدكتور إسماعيل الفاروقي من بضع وثلاثين سنة، كان يقدم الإسلام للعقل الغربي المستنير نظريات في المعرفة والعدالة تثير الإعجاب والمحبة، وإلى جانب علمه الواسع كان دمث الأخلاق، مطمئن النفس، منصفا للخصوم والأصدقاء على سواء.”

كما كان الدكتور الفاروقي حريصا على نقل خبرته في الدراسات اليهودية إلى الطلبة العرب خاصة في تلك المرحلة التي عرفت العدوان الثلاثي على مصر، فقدم سلسة من المحاضرات على طلبة قسم البحوث والدراسات الفلسطينية بمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية. ونشرت هذه المحاضرات في عام 1968 في كتاب عنوانه: “الملل المعاصرة في الدين اليهودي”. وانتهى المؤلف إلى نتيجة هامة وهي أن الإسلام هو ” النظام الأوحد الذي يحقق لليهود ما يبغون. أولا: الحرية والبقاء في سلام، ثانيا: الكيان الجماعي الذي تتطلبه قوميتهم الدينية”.

ودائما في المجال الأكاديمي، نشر الفاروقي سلسلة من المقالات في مجلة كلية الآداب لجامعة القاهرة حول تاريخ الأديان، وخاصة اليهودية. وهو مجال سيتخصص فيه فيما بعد المفكر المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي له صلة فكرية قوية بالفاروقي.

وفي عام 1958، غادر الفاروقي القاهرة ليلتحق بجامعة ماكجيل الكندية مدرسا وباحثا، ألف خلال إقامته في كندا كتابه النفيس: “الأخلاق المسيحية” الذي قدم فيه تصوّرا نقديا للمسيحية لم يرق للمشرفين على هذه الجامعة. ولما جاءه عرض في عام 1961 للعمل في باكستان، غادر تلك الجامعة ليلتحق بمعهد البحوث الإسلامية في كراتشي إلى جانب مجموعة من الباحثين الباكستانيين على رأسهم الدكتور فضل الرحمان.

غير أن الفاروقي لم يجد في هذا البلد الإسلامي ما كان ينتظره من حرية واستقلالية في البحث العلمي، فعاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث اشتغل بالتعليم في عدة جامعات أمريكية كجامعة شيكاغو في سنة 1963، وانتقل إلى جامعة سيراكيوز في سنة 1964، ثم استقر نهائيا في عام 1968 بجامعة تمبل في ولاية بنسلفانيا.

تميز الأستاذ الفاروقي بصلته القوية بالطلبة ودعمه لهم ورعايته الشخصية للنجباء منهم، وما زال الكثيرون منهم يكنون له كل علامات الاحترام والتقدير، ويعترفون بنبوغه الفكري ويشهدون بأخلاقه الفاضلة. وكان من أشهر هؤلاء المستشرق الأمريكي الشهير جون اسبوزيتو الذي أنجز أطروحته في جامعة تمبل تحت إشراف الدكتور الفاروقي. يقول اسبوزيتو في شأن أستاذه العطوف: ” الشيء الآخر الذي يجب أن أعترف به هو الدور الذي كان هو وزوجته لمياء لميس الفاروقي قد لعباه في بعض النواحي، مثل الآباء والأمهات البديلات للكثيرين من طلاب الدراسات العليا. وربما في بعض الأحيان بمثابة مبعوث العناية الربانية البديل، هكذا كان إسماعيل لطلابه.”

هكذا كانت علاقته مع طلبته الأمريكيين يستضيفهم في بيته ويصطحبهم إلى المؤسسات الإسلامية القائمة في الولايات المتحدة الأمريكية ليطلعوا بأنفسهم على نشاطاتها التعليمية وأعمالها الخيرية بعيدا عن الصور النمطية التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة وتروّج لها كتابات المغرضين.

أما بالنسبة للطلبة العرب والمسلمين، فكان الفاروقي على عكس الكثيرين من الأساتذة، يحرص على “استقطابهم ويجهد نفسه لتوفير التمويل لمنحهم الدراسية، ويعتني بهم ويدعوهم في كثير من الأحيان إلى منزله.”

شارك الدكتور الفاروقي في عدة مؤتمرات عالمية وندوات دولية في قضايا فكرية معاصرة، وكان منها ملتقى الفكر الإسلامي العشرين المنعقد في مدينة سطيف الجزائرية في 2-9 سبتمبر 1986، والذي تناول موضوع الإسلام والعلوم الاجتماعية. وقدم إليه الدكتور الفاروقي ورقة عنوانها: “أسلمة المعرفة”، غير أنه لم يحضر بسبب استشهاده في شهر ماي من العام نفسه.

وقد أثارت مداخلات المحاضرين وتوصيات المؤتمر جدلا في الساحة الفكرية خاصة في دائرة العلمانيين أو اليساريين الذين اعتبروها ضربا من المثاليات وهروبا من الواقع. وكتب الدكتور زكي نجيب محمود مقالة في جريدة الأهرام المصرية متهكما: “ لك الله يا علوم الإنسان”.

وإلى جانب التنظير الأكاديمي، اشتغل الفاروقي بالعمل الميداني من قناعته بأنه كلما تجسدت الفكرة على أرض الواقع أثمرت أفكارا جديدة، خاصة إذا وجدت فضاءات ملائمة وبيئات مناسبة، فاهتم مع كوكبة من الأصدقاء مثل الدكتور عبد الحميد أبو سليمان والدكتور طه جابر العلواني وغيرهما بتأسيس مؤسسات علمية أبرزها: جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين بالولايات المتحدة الأمريكية في 1972 والمعهد العالمي للفكر الإسلامي” بنفس البلد في عام 1981 كمؤسسة فكرية، مستقلة، تهدف إلى نشر الفكر وخدمة الثقافة الإسلامية.

وانخرط كذلك في العمل الدعوي بإلقاء المحاضرات في المراكز الثقافية الإسلامية، وتصحيح صورة الإسلام في المجتمع الأمريكي، والمشاركة في النشاطات الثقافية في دائرة حوار الأديان والثقافات. كما لم يستقل عن الشأن الفلسطيني وهو أحد ضحايا الاحتلال الصهيوني لأرض أجداده وآبائه، وإرث أبنائه وأحفاده، فكان دائما نعم النصير للقضية الفلسطينية بقلمه ولسانه.

نظرات في تراثه الفكري

ألف الدكتور الفاروقي أكثر من عشرين كتابا في الفلسفة والعقيدة ومقارنة الأديان والسياسة، معظمها باللغة الانجليزية، وترجم بعضها إلى اللغة العربية، أذكر على سبيل المثال: أصول الصهيونية في الدين اليهودي، الملل المعاصرة في الدين اليهودي، الأخلاق المسيحية، الأطلس التاريخي لأديان العالم، مقالات في الدراسات الإسلامية المقارنة، أطلس الحضارة الإسلامية، التوحيد  مضامينه في الفكر والحياة، العلوم الطبيعية والاجتماعية من وجهة النظر الإسلامية، أسلمة المعرفة المبادئ العامة وخطة العمل، صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، الخ.

كما نشر دراسات وبحوثا في مجلات أكاديمية بالعربية والانجليزية، وأذكر على سبيل المثال: المجلة الإسلامية للعلوم الاجتماعية، مجلة الكتاب المقدس والأديان، مجلة البحوث الإسلامية، الإسلام والعصر الحديث، العلم والإيمان، مجلة الشباب العربي، المسلم المعاصر، مجلة معهد شؤون الأقلية الإسلامية، …إلخ.

لعل أول ما يلفت نظر القارئ هو تنوع إنتاج الفاروقي وعمق أفكاره وتعدد اهتماماته وغزارة عطائه، والسر في ذلك هو الانضباط الدقيق الذي عوّد نفسه عليه رغم كثرة نشاطاته الاجتماعية والثقافية والأكاديمية، فالنظام سمة بارزة في حياة هذا النابغة الفلسطيني، خاصة ما تعلق بالكتابة. يقول في هذا الشأن المفكر الأردني الدكتور فتحي ملكاوي: “لقد حظيتُ شخصياً بقضاء ليلة بصحبته في شيكاغو عام 1980م، وسألته عن السرِّ في غزارة إنتاجه وإنجازه، رغم كثرة مشاغله وأسفاره، فأجاب: “أحرص أن لا أنام في كل ليلة قبل أن أكتب عشر صفحات على الأقل.”

وأما السمة الثانية فهي التواضع والاعتراف بإسهام الآخر باعتبار العلم تراكما في الإبداع وتطويرا في إنتاج المعرفة عبر الحضارات والأزمنة. “يظن بعض الناس أن أفكاري من صنعي، لكن كلما يشكل عليّ أمر أجد جوابه عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.”

هذا هو حال العلماء والعظماء. فقد قال توماس أديسون الذي اخترع مئات من الآلات التي ننعم بها اليوم في بيوتنا ومكاتبنا ومدارسنا ومصانعنا كلاما مماثلا: ” أنا لم أبتكر شيئا جديدا .. إن معظم ما قدمته للبشرية كان يستند إلى أفكار غيري من العلماء. كل ما فعلته هو أنني نقلت هذه الأفكار وأضفت إليها من عندي. إنها عملية تطوير أكثر منها عملية اختراع.”

ولابد أن نقف قليلا هنا عند العالم ابن تيمية الذي أشرت إليه من قبل. فله مكانة خاصة عند الفاروقي الذي وصفه بـ “الشخص العظيم الشامخ” واعتباره خاتم عمالقة الحضارة الإسلامية، وملهم الفكر الإسلامي في العصر الحديث، ذلك أن رؤيته “تضمنت كلا من الماضي والحاضر على جميع الجبهات –الدينية، والقانونية، والثقافية، والاجتماعية، والعسكرية. ولقد استطاع بمجهوده الخاص إنشاء جيش من المصريين ووضع نهاية لمسيرة التتار عبر سوريا وفلسطين. ولقد توقفت غزوة التتار أخيراً بمقتضى الموقف الذي اتخذه الجيش الصغير الخاص بابن تيمية في عين جالوت بفلسطين.”

لقد طرح الفاروقي مشروع إسلامية المعرفة. ومن الضروري هنا أن نوضح ماذا يقصد من هذا الاصطلاح. إنه يعني إضفاء الصفة الإسلامية على العلوم الاجتماعية تحت مبدأ التوحيد، وتوفير رؤية شاملة للمعرفة. فهو ينطلق من فكرة جوهرية وهي شمولية الإسلام تفرض إسهامه في كل مجالات الحياة بما فيها العلم والمعرفة: “الإسلام ملائم لكل جوانب التفكير والحياة والوجود. وهذا التلاؤم يجب أن يظهر بوضوح تام في كل علم.” (إسلامية المعرفة، ص 5). وقد وضع أسس هذا المشروع في عدة كتاباته خاصة في “أسلمة المعرفة”. وترجمه الدكتور عبد الوارث سعيد من جامعة الكويت، وصدر في عام 1983 عن دار البحوث العلمية بالكويت. وهو في الأصل بحث قدمه خلال مؤتمر دولي نظمته الجامعة الإسلامية في إسلام أباد و “المعهد العالمي للفكر الإسلامي”، في مدينة إسلام أباد في يناير 1982، شرح فيه المبادئ العامة ورسم فيه خطة العمل.

وتأسست في عام 1981 مجلة إسلامية المعرفة لتعمل في إطار هذا المفهوم الجديد وتكريسه، وقد نجحت إلى حد بعيد وأضافت إليه أبعادا جديدة وصلت إلى بلورة مشروع آخر متمم وهو التكامل المعرفي.

يكمن الخلل في نظر الفاروقي في العقل المسلم وسلوكه الذي لا يتلاءم مع قيم الإسلام وفعاليتها، والإصلاح يجب أن يبدأ أولا وقبل كل شي إصلاح التعليم الذي تصنع في العقول وتحضر الأجيال التي تتحكم في مصير الأمة في المستقبل، فإصلاح مناهجه ضرورة ملحة لتجاز الأزمة الراهنة وتأسيس النهضة المنشودة منذ زمن بعيد، غير أنها لم تتحقق بعد رغم كل الجهود الجبارة التي بذلتها مختلف الحركات الإصلاحية والعلماء منذ مطلع القرن التاسع عشر.

فالحل إذن مرتبط بتحديد الأولويات واختيار المنهج المناسب. لكن ماذا يقصد الفاروقي بالتعليم؟ وما يميز طرحه عما طرحه من سبقوه من العلماء والمفكرين المسلمين؟

إن إصلاح التعليم المرجو منهم هو صبغ المعرفة الحديثة ذاتها بالصبغة الإسلامية. وهي مهمة تشبه في خصائصها – وإن كانت أرحب مدى – ما اضطلع به أسلافنا ثقافياً وحضارياً. فالدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية والطبيعية يجب – كمقررات دراسية – أن تُتصور وتُبنى من جديد وأن تقام على أسس إسلامية جديدة وتناط بها أغراض جديدة تتفق مع الإسلام. يجب أن يصاغ كل علم صياغة جديدة بحيث يجسد مبادئ الإسلام في منهجيته وإستراتيجية، وفي معطياته ومشاكله، وفي أغراضه وطموحاته.”

والتعليم لا يهتم فقط بتكوين الطلبة وتوجيههم وفق المنهج الإسلامي الذي يراعي الأبعاد الثلاث للتوحيد، وهي: وحدة المعرفة، وحدة الحياة، وحدة التاريخ؛ بل إصلاح التعليم موجه أيضا للمعلمين والمربين والنخبة بشكل عام التي هي أيضا تعاني من أربع مشاكل خطيرة جديرة بحلها، وهي: التغريب، الازدواجية (تشوش الرؤية بكثرة المرجعيات وصراعاتها)، التقطيب (أي النظرة الذرية والجزئية للأشياء)، نقص الوعي الرسالي.

كثيرا ما شدد الفاروقي على خطورة التغريب أو الغزو الثقافي الذي يتعرض له باستمرار الإنسان المسلم سواء في العالم الإسلامي أو خلال تواجده في العالم الغربي لأسباب مختلفة. “يغزونا الفكر الغربي في هذا العصر شر غزو، ويدخل إلى وعينا بشتى السبل. فيحل محل الفكر الإسلامي العريق بعد أن يقحمه، لا يضعف في الفكر الإسلامي، بل يضعف فينا.” وتكمن الأسباب في نظره في “جهلنا بالإسلام كنظام فكري، وقلة وعينا الحضاري” و عدم معرفتنا الصحيحة للفكر الغربي.

إن الانبهار الذي تحقق تجاه الحضارة الغربية لا يقوم على أسس سليمة لأن المسلم لا يعرف حقيقة هذا الغرب لذلك أصبح من واجب الجامعيين والمفكرين العرب والمسلمين أن يبصّروا أقوامهم بذلك، ويرفعوا عنهم الغشاوة ليروا بوضوح الوجه الحقيقي لهذه الحضارة القائمة على قيمها الخاصة ولا تعترف بقيم غيرها.

درس الفاروقي تاريخ الحضارة الإسلامية في جميع مظاهرها العلمية والأدبية والفنية والمعمارية، وعبر مراحل الدولة الإسلامية المختلفة. ويعتبر كتاب “أطلس الحضارة الإسلامية” الذي ألفه مع زوجته لميس الفاروقي من خير المراجع التي تناولت التراث الحضاري الإسلامي في دقته وعمقه وتنوعه وشموليته.

كما اهتم بالنهضة الإسلامية في واقعنا المعاصر وحلل أهم مكوناتها كالحركة الوهابية، والسنوسية والمهدية والإخوان المسلمين، وجماعة المحمدية وشركة الإسلام في أندونيسيا، واتحاد الطلبة المسلمين في أمريكا. وكلها تشترك في الأهداف وان فرقتها الجغرافيا. والنهضة تعني الارتقاء باستخدام القدرات الكامنة وتفعيل المقومات الحضارية مع الحفاظ على الجوهر.

ودرس مدى اهتمامها بترقية العقل وانخراطها في العمل وقدرتها على مواكبة التحديات الحاصلة في العالم. ففي المجال الأول يرى الفاروقي أن الحركة السنوسية نجحت في توسيع دائرة التعليم ونشر الثقافة الشفهية بالإقناع وليس عن طريق القتال. وحققت الحركة المحمدية في اندونيسيا النظام المدرسي الشامل من الروضة إلى الكليات والمراكز العلمية

ولا شك أن الفاروقي لو اطلع على إنجازات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مجال التعليم رغم كل المعوّقات الاستعمارية لقدم الجائزة الأولى لهذه الحركة الإصلاحية الجزائرية.

أما فيما يخص تنزيل حكم الإسلام فإن كل الحركات لم تصل إلى هذه المرتبة ما عدا السنوسية غير أن الاستعمار قضى على هذه التجربة في مهدها. ولم تفلح بعدها أي حركة أخرى في إعادة التجربة بسبب طبيعتها القبلية وانشغالها بالأمور السياسية المحلية.

وليس أدل على ذلك من أن المسلمين عجزوا عن إنشاء مدينة جديدة على غرار الحواضر الإسلامية السابقة باستثناء إسلام آباد في باكستان.

لقد واجهت الحركات الإصلاحية خمسة مشاكل أساسية أعاقت مسيرتها وأثقلت مسؤوليتها وشتت جهودها، وهي: الشعوذة، التقليد، الاستعمار، الفرقة، الدنيوية. وقد لخصها الفاروقي جميعها في هذه الفقرة: “إن الصوفية تعد في تعريفها ذاتنية، وتستطيع أن تؤدي فقط إلى الأخلاقيات الفردية التي تعد بالضرورة متعارضة مع الحياة، أي زاهدة في الحياة. أما التقليد فهو بمثابة الإتباع السلس للأسلاف: وتتمثل صفاته في الموضوعية، والخمول، والكسل، والبلادة وحالة من التشتت. ويأتي الاستعمار، الذي ليس بحاجة إلى التعريف، في المرتبة التالية. وأيا كان شكله أو أسلوبه –فهو يتخذ شكلاً جديداً كل يوم- فهو يعد بمثابة قوة شيطانية هائلة تعمل ضدنا. وأخيراً، فإن انقسام المجتمع المسلم على نفسه، إلى جانب الدنيوية –أي نشوء الشخص والقيم الاجتماعية في موضع آخر غير القرآن والسنة، قد أدى إلى ظهور مشكلة ذات بعد خطير”.

ولابد أن تجدد العزائم لتستعيد الأمة هويتها الفكرية والثقافية لتتمكن من القيام بمهمة الشهود الحضاري المفروضة عليها، وذلك بالعمل على تفجير القوة الكامنة في الإسلام منطلقا من رؤية واضحة المعالم وتحديد هدف مسطر ووضع وسائل مناسبة لتحقيق رسالة الاستخلاف في الأرض: “إن الإسلام فقط هو الذي يخبرنا أنه يجب تحقيق الحقيقة المطلقة ذاتها بواسطتنا على الأرض وليس في مملكة خيالية أخرى، وأنها يجب تحقيقها في التاريخ بواسطتنا. فقط الإسلام! فقط الإسلام هو الذي يؤكد قيمة الإنسان، ولا تعتبره «منحل الأخلاق» بل تعتبره بمثابة خليفة الله على الأرض.”

لم تمر عشرون سنة عن التحاقه بجامعة تمبل حتى تفاجأ أصدقاؤه وطلبته بخبر مقتل الدكتور الفاروقي وزوجته في بيته يوم 18 رمضان 1407 هـ بشناعة من طرف عصابة مجهولة. لكن العارفين أدركوا منذ البداية أنها ليست قضية سرقة للمال والمجوهرات إن وجدت فعلا وإنما كانت الجريمة مخططة ومقصودة لإسكات صوت هذا المفكر العربي الذي آمن يوما بالحلم الأمريكي الذي يضمن له حقه المصون في التعبير بكل حرية عن مواقفه المؤيدة للشعب الفلسطيني والمعارضة للوبي الصهيوني، والدفاع عن حقوق الجاليات الإسلامية في الغرب وتصحيح صورة الإسلام في المجتمع الأمريكي، وحمل مشروع رائد في الفكر الإسلامي المعاصر ينشد نهضة حقيقية في العالم العربي والإسلامي.

إننا نعيش فعلا في زمن ليس فيه حق للإنسان العربي أن يحلم أصلا حتى لا يرى في منامه الفرج كما رآه من قبل الخالدون في التاريخ من الأنبياء والعظماء !!

*أكاديمي جزائري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى